فصل: بصيرة في: {يا أيها المدثر}

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم




.سورة المدثر:

.فصول مهمة تتعلق بالسورة الكريمة:

.فصل في فضل السورة الكريمة:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
فضل السّورة:
فيه الحديث الضعيف عن أُبي: «منْ قرأها أُعطِي من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدّق بمحمّدٍ، وكذّب به بمكّة».
وحديث علي: «يا علي منْ قرأها أعطاه الله ثواب المتحابّين في الله، وله بكلّ آية قرأها مائةُ شفاعة». اهـ.

.فصل في مقصود السورة الكريمة:

.قال البقاعي:

سورة المدثر مقصودها الجد والاجتهاد في الإنذار بدار البوار لأهل الاستكبار، وإثبات البعث في أ، فس المكذبين الفجار، والإشارة بالبشارة لأهل الادكار، بحلم العزيز الغفار، واسمها المدثر أدل مافيها على ذلك، وذلك واضح لمن تأمل النداء والمنادى به والسبب. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

.بصيرة في: {يا أيها المدثر}

السّورة مكِّيّة.
وآياتها ست وخمسون في عدّ العراقى والبزِّىّ، وخمس في عدّ المكِّىّ.
وكلماتها مائتان وخمس وخمسون.
وحروفها ألف وعشر.
المختلف فيها اثنان: {يتساءلون عنِ الْمُجْرِمِين} فواصل آياتها (رُدْنها) على الدّال آية: {ثُمّ يطْمعُ أنْ أزِيد}.
سمّيت المدّثِّر؛ لمفتتحها.

.مقصود السّورة:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلْق إِلى الإِيمان، وتقرير صعوبة القيامة على (الكفّار و) أهل العصيان، وتهديد وليد ابن مُغيرة بنقض القرآن، وبيان عدد زبانية النِّيران، وأنّ كلّ أحد رهْن بالإِساءة والإِحسان، وملامة الكفّار على إِعراضهم عن الإِيمان، وذكر وعْد الكريم على التقوى بالرّحمة والغفران، في قوله: {هو أهْلُ التّقْوى وأهْلُ المغْفِرة}.
المنسوخ فيها آية واحدة: م {ذرْنِي ومنْ خلقْتُ وحِيدا} ن آية السيف. اهـ.

.فصل في متشابهات السورة الكريمة:

.قال ابن جماعة:

سورة المدثر:
454- مسألة:
قوله تعالى: {إِنّهُ فكّر وقدّر (18) فقُتِل كيْف قدّر} ما فائدة تكرير {قدّر}؟.
جوابه:
أن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما فكر فيما يرد به على النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من القرآن.
فالأول تقديره: ما يريد بقوله.
والثاني: أنه قدر أن قوله شعر ترده العرب لأنه ليس على طريقة الشعر، قال الله تعالى: {فقُتِل كيْف قدّر}.
والثالث قدر أن قوله هو كهانة من كلام الكهان ترده العرب لمخالفته كلام الكهان فهو قوله تعالى ثالثا: {ثُمّ قُتِل كيْف قدّر}.
455- مسألة:
قوله تعالى: {كلّا إِنّهُ تذْكِرةٌ} فالضمائر مذكرة، والتذكرة مؤنثة؟
جوابه:
أن التذكرة مصدر بمعنى التذكر، وليس مؤنثا، فرجع الضمير إلى مذكر في المعنى، وأتى بلفظ التذكرة لموافقته فواصل الآيات قبله. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

المتشابهات:
قوله: {إِنّهُ فكّر وقدّر فقُتِل كيْف قدّر ثُمّ قُتِل كيْف قدّر} أعاد {كيْف قدّر} مرّتين، وأعاد {قدّر} ثلاث مرّات، لأنّ التقدير: إِنّه- أي الوليد- فكّر في شأْن محمّد صلى الله عليه وسلم وما أتى به وقدّر ماذا يمكنه أن يقول فيهما.
فقال الله سبحانه-: {فقُتِل كيْف قدّر} أي القول في محمّد صلى الله عليه وسلم {ثُمّ قُتِل كيْف قدّر} أي القول في القرآن.
قوله: {كلاّ إِنّهُ تذْكِرةٌ} أي تذكير وعدل إِليها للفاصلة.
وقوله: {كلاّ إِنّهُ تذْكِرةٌ فمن شاء ذكرهُ} وفى عبس {إِنّها تّذْكِرة} لأنّ تقدير الآية في هذه السّورة: إِنّ القرآن تذكرة، وفى عبس: إِنّ آيات القرآن تذكرة، وقيل: حمل التذكرة على التذكير، لأنّها بمعناه. اهـ.

.فصل في التعريف بالسورة الكريمة:

.قال ابن عاشور:

سورة المدثر:
تسمى في كتب التفسير (سورة المدثر) وكذلك سميت في المصاحف التي رأيناها ومنها كتب في القيروان في القرن الخامس.
وأريد المُدثِّر النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحالة التي نُودي بها، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذُكروا فيها.
وإمّا تسمية باللفظ الذي وقع فيها، ونظيره ما تقدم في تسمية (سورة المزمل)، ومثله ما تقدم في سورة المجادلة من احتمال فتح الدال أو كسرها.
وهي مكية حكى الاتفاق على ذلك ابنُ عطية والقرطبي ولم يذكرها في (الإِتقان) في السور التي بعضها مدني. وذكر الألوسي أن صاحب (التحرير) (محمد بن النقيب المقدسي المتوفى سنة 698 له تفسير) ذكر قول مُقاتل أو قوله تعالى: {وما جعلنا عدتهم إلاّ فتنة} (المدثر: 31) إلخ نزل بالمدينة اه. ولم نقف على سنده في ذلك ولا رأينا ذلك لغيره وسيأتي.
قيل: إنها ثانية السور نزولا وإنها لم ينزل قبلها إلاّ سورة {اقرأ باسم ربّك}(العلق: 1) وهو الذي جاء في حديث عائشة في (الصحيحين) في صفة بدْء الوحي «أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الحق وهو في غار حِراء فجاءه الملك فقال: {اقرأ باسم ربّك الذي خلق}إلى {ما لم يعلم} (العلق: 1-5) ثم قالت: ثم فتر الوحي. فلم تذكُرْ نزول وحي بعد آيات {اقرأ باسم ربّك}».
وكذلك حديث جابر بن عبد الله من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن من طرق كثيرة وبألفاظ يزيد بعضها على بعض. وحاصل ما يجتمع من طرقه: قال جابر بن عبد الله وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه إن النبي قال: «فبينا أنا أمشي سمعتُ صوتا من السماء فنُوديت فنظرتُ أمامي وخلْفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئا فرفعتُ رأسي فإذا الملك الذي جاءني بِحِراءٍ جالسٌ على كرسي بين السماء والأرض فُجِئْتُ منه رُعبا فأتيت خديجة فقلت: دثِّروني فدثروني زاد غير ابن شهاب من روايته وصُبُّوا عليّ ماء باردا فدثّروني وصبُّوا عليّ ماء باردا». قال النووي: صب الماء لتسكين الفزع. فأنزل الله: {يا أيها المدثر} إلى {والرجز فاهجر} (المدثر: 1-5) ثم حمي الوحي وتتابع اه.
ووقع في (صحيح مسلم) عن جابر: أنها أول القرآن، سورة المدثر وهو الذي يقول في حديثه أن رسول الله يحدث عن فترة الوحي وإنما تقع الفترة بين شيئين فتقتضي وحيا نزل قبل سورة المدثر وهو ما بُين في حديث عائشة.
وقد تقدم في صدر سورة المزمل قول جابر بن زيد: أن سورة القلم نزلت بعد سورة العلق وأن سورة المزمل ثالثة وأن سورة المدثر أربعة.
وقال جابر بن زيد: نزلت بعد المدثر سورة الفاتحة. ولا شك أن سورة المدثر نزلت قبل المزمل وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر فكان التعرض لهم في سورة المزمل أوسع.
وقد وقع في حديث جابر بن عبد الله في (صحيح البخاري) و(جامع الترمذي) من طريق ابن شهاب أن نزول هذه السورة كان قبل أن تفرض الصلاة.
والصلاة فرضت بعد فترة الوحي سواء كانت خمسا أو أقل وسواء كانت واجبة كما هو ظاهر قولهم: فرضت، أم كانت مفروضة بمعنى مشروعة وفترة الوحي مختلف في مدتها اختلافا كثيرا فقيل: كانت سنتين ونصفا، وقيل: أربعين يوما، وقيل: خمسة عشر يوما، والأصح أنها كانت أربعين يوما. فيظهر أن المدثر نزلت في السنة الأولى من البعثة وأن الصلاة فرضت عقب ذلك كما يشعر به ترتيب ابن إسحاق في سوْق حوادث سيرته.
وعدّ أهلُ المدينة في عدهم الأخير الذي أرْسوْا عليه وأهلُ الشام آيها خمسا وخمسين وعدّها أهل البصرة والكوفة وأهل المدينة في عدهم الأول الذي رجعوا عنه ستا وخمسين.
أغراضها:
جاء فيها من الأغراض تكريم النبي صلى الله عليه وسلم والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة.
وإعلان وحدانية الله بالإِلاهية.
والأمر بالتطهر الحسي والمعنوي.
ونبذ الأصنام.
والإِكثارُ من الصدقات.
والأمرُ بالصبر.
وإنذارُ المشركين بهول البعث.
وتهديد من تصدى للطعن في القرآن وزعم أنه قول البشر وكفر الطاعِن نعمة الله عليه فأقدم على الطعن في آياته مع علمه بأنها حق.
ووصفُ أهوال جهنم.
والرد على المشركين الذين استخفوا بها وزعموا قلة عدد حفظتها.
وتحدّي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عدد حفظتِها.
وتأييسهم من التخلص من العذاب.
وتمثيل ضلالهم في الدّنيا.
ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهل الصلاة والزكاة والتصديق بيوم الجزاء. اهـ.

.قال سيد قطب:

تعريف بسورة المدثر:
ينطبق على هذه السورة من ناحية سبب نزولها، ووقت نزولها ما سبق ذكره عن سورة (المزمل). فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة وإيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ فقال: {يا أيها المدثر}.. قلت: يقولون {اقرأ باسم ربك الذي خلق} فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلت له مثل ما قلت لي، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جأورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا. فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماءا باردا. قال: فدثروني وصبوا علي ماءا باردا. قال: فنزلت: {يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر}»..
وقد رواه مسلم من طريق عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة. قال: أخبرني جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه، «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر. قم فأنذر..}.- إلى – {والرجز فاهجر} قال أبو سلمة: والرجز الأوثان. ثم حمي الوحي وتتابع».. ورواه البخاري من هذا الوجه أيضا.. وهذا لفظ البخاري.
وعلق ابن كثير في التفسير على هذا الحديث بقوله: وهذا السياق هو المحفوظ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» وهو جبريل، حين أتاه بقوله... {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}. ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد هذا. ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة..
فهذه رواية. وهناك رواية أخرى.. قال الطبراني: حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار، حدثنا الحسن بن بشر البجلي، حدثنا المعافى بن عمران، عن إبراهيم بن يزيد، سمعت ابن أبي مليكة يقول: سمعت ابن عباس يقول: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر. وقال بعضهم: ليس بساحر. وقال بعضهم: كاهن. وقال بعضهم: ليس بكاهن. وقال بعضهم: شاعر. وقال بعضهم: ليس بشاعر. وقال بعضهم بل سحر يؤثر. فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن، وقنع رأسه، وتدثر. فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر}..
وتكاد تكون هذه الرواية هي ذاتها التي رويت عن سورة (المزمل).. مما يجعلنا لا نستطيع الجزم بشيء عن أيتهما هي التي نزلت أولا. والتي نزلت بهذه المناسبة أو تلك.
غير أن النظر في النص القرآني ذاته يوحي بأن مطلع هذه السورة إلى قوله تعالى: {ولربك فاصبر} ربما يكون قد نزل مبكرا في أوائل أيام الدعوة. شأنه شأن مطلع سورة المزمل إلى قوله تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا}.. وهذا وذلك لإعداد نفس الرسول صلى الله عليه وسلم للنهوض بالتبعة الكبرى، ومواجهة قريش بعد ذلك بالدعوة جهارا وكافة، مما سيترتب عليه مشاق كثيرة متنوعة، تحتاج مواجهتها إلى إعداد نفسي سابق.. ويكون ما تلا ذلك في سورة المدثر، وما تلا هذا في سورة المزمل، قد نزلا بعد فترة بمناسبة تكذيب القوم وعنادهم، وإيذائهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالاتهام الكاذب والكيد اللئيم.
إلا أن هذا الاحتمال لا ينفي الاحتمال الآخر، وهو أن يكون كل من المطلعين قد نزل متصلا بما تلاه في هذه السورة وفي تلك، بمناسبة واحدة، هي التكذيب، واغتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم للكيد الذي كادته قريش ودبرته.. ويكون الشأن في السورتين هو الشأن في سورة القلم على النحو الذي بيناه هناك.
وأيا ما كان السبب والمناسبة فقد تضمنت هذه السورة في مطلعها ذلك النداء العلوي بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل؛ وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة: {يا أيها المدثر قم فأنذر}.. مع توجيهه صلى الله عليه وسلم إلى التهيؤ لهذا الأمر العظيم، والاستعانة عليه بهذا الذي وجهه الله إليه: {وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر}.. وكان ختام التوجيه هنا بالصبر كما كان هناك في سورة المزمل!
وتضمنت السورة بعد هذا تهديدا ووعيدا للمكذبين بالآخرة، وبحرب الله المباشرة، كما تضمنت سورة المزمل سواء: {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا}..
وتعين سورة المدثر أحد المكذبين بصفته، وترسم مشهدا من مشاهد كيده- على نحو ما ورد في سورة القلم، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحدا، قيل: إنه الوليد بن المغيرة- كما سيأتي تفصيل الروايات عند مواجهة النص- وتذكر سبب حرب الله سبحانه وتعالى له: {إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر}.. ثم تذكر مصيره: {سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر}.
من الآية 31 الى الآية 48
{وما جعلْنا أصْحاب النّارِ إِلّا ملائِكة..} الآيات.
وبمناسبة مشهد سقر. والقائمين عليها التسعة عشر. وما أثاره هذا العدد من بلبلة وفتنة وتساؤل وشك واستهزاء في أوساط المشركين وضعاف الإيمان، تتحدث السورة عن حكمة الله في ذكر هذا العدد، ثم تفتح كوة على حقيقة غيب الله، واختصاصه بهذا الغيب. وهي كوة تلقي ضوءا على جانب من التصور الإيماني لحقيقة غيب الله المكنون: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر}..
ثم يصل أمر الآخرة وسقر ومن عليها بمشاهد كونية حاضرة، ليجمع على القلوب إيحاء هذه وتلك في معرض الإيقاظ والتحذير: {كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}..
كما يعرض مقام المجرمين ومقام أصحاب اليمين، حيث يعترف المكذبون اعترافا طويلا بأسباب استحقاقهم للارتهان والقيد في يوم الجزاء والحساب، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع: {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين}..
وفي ظل هذا المشهد المخزي، والاعتراف المهين، يتساءل مستنكرا موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير، ويرسم لهم مشهدا ساخرا يثير الضحك والزراية من نفارهم الحيواني الشموس: {فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة}.
ويكشف عن حقيقة الغرور الذي يسأورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكر الناصح. {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة}.. فهو الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة! والسبب الدفين الآخر هو قلة التقوى: {كلا بل لا يخافون الآخرة}..
وفي الختام يجيء التقرير الجازم الذي لا مجاملة فيه: {كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره} ورد الأمر كله إلى مشيئة الله وقدره: {وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة}..
وهكذا تمثل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي الذي كافحه القرآن للجاهلية وتصوراتها في قلوب قريش؛ كما كافح العناد والكيد والإعراض الناشئ عن العمد والقصد بشتى الأساليب.. والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة واتجاهات سورة المزمل، وسورة القلم، مما يدل على أنها جميعا نزلت متقاربة، لمواجهة حالات متشابهة.. وذلك باستثناء الشطر الثاني من سورة المزمل، وقد نزل لشأن خاص بالرياضة الروحية للرسول صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه كما تقدم.
وهذه السورة قصيرة الآيات. سريعة الجريان. منوعة الفواصل والقوافي. يتئد إيقاعها أحيانا، ويجري لاهثا أحيانا! وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر.. وتصوير مشهد سقر. لا تبقي ولا تذر. لواحة للبشر.. ومشهد فرارهم كأنهم حمر مستنفرة. فرت من قسورة!
من الاية 49 الى الاية 52
{فما لهُمْ عنِ التّذْكِرةِ مُعْرِضِين (49) كأنّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتنفِرةٌ (50) فرّتْ مِن قسْورةٍ (51) بلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أن يُؤْتى صُحُفا مُّنشّرة (52)}
وهذا التنوع في الإيقاع والقافية بتنوع المشاهد والظلال يجعل للسورة مذاقا خاصا؛ ولاسيما عند رد بعض القوافي ورجعها بعد انتهائها كقافية الراء الساكنة: المدثر. أنذر. فكبر.. وعودتها بعد فترة: قدر. بسر. استكبر. سقر... وكذلك الانتقال من قافية إلى قافية في الفقرة الواحدة مفاجأة ولكن لهدف خاص. عند قوله: {فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة}.. ففي الآية الأولى كان يسأل ويستنكر. وفي الثانية والثالثة كان يصور ويسخر! وهكذا... اهـ.